للشعر دور في لفت الانتباه إلى بعض القيم التي تساهم في تحقيق الحياة الكريمة للإنسان،وفق منظور اجتماعي رسمته المجتمعات لمسارها الاجتماعي ولحياتها المشتركة،ألزمت التربية أفراد كل مجتمع بالخضوع لهذه القيم،وهذه القيم يعتريها البلى فتتجدد بتقدم الحياة الثقافية و مكتسبات المجتمع من تجارب المجتمعات الأخرى، ووعيه بحاجته المتجددة أيضا.
ولقد جاء تعدد الموارد الثقافية وتطور وسائل الاتصال ليحل محل المنتديات والمجالس التي كانت تعقد قديما وتطرح الأفكار التربوية من خلال ما يثار في هذه المنتديات من حوارات وقصص وقصائد تحمل كثيراً من التوجهات التربوية، التي تنغرس في ذاكرة الأجيال فيسعون للأخذ بها، ولقد كانت التربية تمارس أنواعاً من أساليب القسوة:
فقسا ليزدجروا ومن يك راحماً فليقس أحيانا على من يرحم
ومن أمثلة ذلك أن الشاعر معوض الحجوري- وكما يذكر الأستاذ محمد حامد السنا ني في كتابه: شعراء من الحوراء- واجه من والده تأنيباً قاسياً وانتقاداً حاداً لتكاسله وتوانيه فأجابه:
يا بوي لاتكثر عليّ المشاناة
كلاً وعقله لا تخزِّى عليه
الحر يعرف للمعاني بلا اوصاه
يخيِّل القصيا و يفطن لذيّه
والذيب ما يوطِّي على قضبة الشاه
ولا استبصر الراعي لديد الرعّية
واللاش لو صبر الخيارين يقداه
كان ان ماجا في العرب هيقيلة
وقد وقعت هذه الأبيات من الوالد موقعاً حسناً، وسر لجواب ابنه وأبدى له السعادة واستسمحه.
وقد ارتفعت معنوية الشاعر من ردود الفعل الجميلة لدى والده، و أظهر فيما بعد نبوغاً شعرياً نلمس في كثيراً منه رجولة و رجاحة عقل، و حياة تعبّ من مشارب الحياة النقية.
ففي مجال الغزل وهو من أوائل ما يعالج الشعراء في شبابهم نجد اتزاناً في الإبداع وتوازناً في النزعة فهو يقول من أبيات:
توِّي لقيت الهوى اللي يذكرونه عند رجال
وامسيت محبوس مثل اللي مقيّد في الحديد
ظليت اقيسه وثم ازريت لا اكيله بمكيال
لاحق مقر الهوى راعيه مهبول السميدي
وتراي عشق الهوى ماهو كما هو عشق الانذال
أقفيت مشغول وانا ما على حالي مزيد
ثم يستعين الشاعر بأخيه ليحقق له أمله بالزواج ممن أحب فيقول:
يا اخوي حامد قصدتك غير لاهله ترهن المال
وتجيب من عندهم مردود كاد انك عضيدي
وتسوق خمسين مصرورة وفيهن دق وجلال
واربع من الزّمل ياخذهن رحايل للشديد
وتسوق عشرة ودايا كلبوهن تحت الأجهال
إن عشت ياخوي ينقاهن من الغرس الجديد
إلى آخر الأبيات التي تنقل لنا تقاليد المعاصرة في ذلك الزمن مما يجري في حالات الخطبة واتمام الزواج ، وأنواع المعاناة في جمع تكلفة الزواج وكسب جانب الزوجة ، فرهن المال وتقديم حصيلة المال المدخر في الصرر من ذهب وفضة وأجزائها، وتقديم الإبل والغرس الجديد، إلى عملات مصريه وإنجليزية وأغنام إلى غير ذلك من المغريات مما جاء في الأبيات.
أما معاني الرجولة الأخرى، والتي يتفق على أهميتها المجتمع العربي وبخاصة البدوي فهي القهوة العربية، وذلك أنه تتم حولها المسامرة والمؤانسة، ويفاخر بها البدوي أية مفاخرة، ولهم فيها فنون، بدء من وجودها إلى تميز أوانيها وطرق إعدادها وأسلوب تقديمها، ومناداة الجيران لمجلسها باستخدام تنغيم النجر أو الهاون.ولقد حدث أن كان الشاعر وأصدقاؤه في رحلة فلم يجدوا ما يعدون فيه القهوة غير قدر يستخدم لطبخ الطعام، فاستخدموه مضطرين،إلا أن ذلك لم يرق شاعرنا باعتبار أن القهوة من فنون الكيف التي يقول فيها الشاعر:
الفن فنين وهي فنون
وكل فنين مصطفة
الشاذلية مع الغليون
والكاس يحلو مع اللفة
ويعني بالكاس فنجان الشاي، أما اللفة فهي السيجارة عندما كانوا يلفونها في ورق الشام الرقيق، أما الشاذلية فهي القهوة.
نعود إلى القهوة والقدر فقد قال شاعرنا منتقداً إعداد القهوة في القدر:
عز الله ان الكيف بالقدر ينعاف
نصفاه في الفنجان عده صخينة
والكيف دير المال في كل الأطراف
يمني الناشي على كل زينة
والكيف ظل البيت الأسمر لياهاف
ونجراً يغنى يوم الاسعار شينة
وأخيراً يتعرض شاعرنا لمرض أقعده، فانقطع عن زيارته أصدقاؤه فقال:
عزّي لمن طاح عن حيله ويبغى فزعة الناس
لو حيلهم من جبل محري بهم مايدفعونه
فيه الرفيق القريّب يوم قيّس بعض الأقياس
قعد يقيّس خطاه لحين حال الياس دونه
إن شاف رغبة يجي ويقول: لاسية ولا باس
ما شاف رغبة يقول: الكل متعبته شطونه
إلى أخر الأبيات.
بقي أن نقول إن هذا الشاعر من مدينة أملج ومن قبيلة جهينة، ولشعر شعرائها حلاوة وطلاوة،
ونختم بأبيات غزلية يبدأها بقوله:
قلبي وعيني تبارن بالنحي والراي منصوف
إن كان جبنا لهن عذال كلاًّ قال ماني
العين قالت: نبي تبع الهوى طول اني اشوف
لامن يعذّل عليّه دون صافية الثمانِ
والقّلب قال: اقنعي حنا كسرنا الحرف بحروف
الحرف الأول سرى ونبدله بحروف ثاني
يا العين صومي وصلي لايزوغك كل مخفوف
طرد الهوى مايفيدك في قضيفات المباني
عبد الرحيم الأحمدي