وُلِد الشاعر التونسي ابو القاسم الشابي في ضواحي تورز التونسية سنة 1909، وفي سنة 1920 التحق بجامع الزيتونة، وحصّل ثقافة واسعة. وفي سنة 1930 تخرّج من كلية الحقوق، واصيب بمرض عضال اودى بحياته سنة 1934 وللشابي ديوان شعر بعنوان "اغاني الحياة".
هذه بعض الابيات من قصيدة الى طغاة العالم لابي القاسم الشابي
ألاّ أيّهــــا الظـــالمُ المســـتبِدُّ حــبيبُ الظــلامِ, عــدوّ الحيــاهْ
ســخرتَ بأنّــات شـعبٍ ضعيـفٍ وكــفُّك مخضوبــةٌ مــن دمــاهْ
وســرتَ تُشــوِّه سِــحْرَ الوجـودِ وتبــذرُ شــوكَ الأسـى فـي رُبـاهْ
**********
رُوَيـــدَك! لا يخــدعنْك الــربيعُ وصحـوُ الفضـاء, وضـوءُ الصبـاحْ
ففـي الأفُـقِ الرحـبِ هـولُ الظـلام وقصـفُ الرعـودِ, وعصـفُ الريـاحْ
حــذارِ! فتحــت الرمــادِ اللهيـبُ ومـن يبـذرِ الشـوك يجـنِ الجـراحْ
**********
تــأمل! هنــالك.. أنّــى حـصدتَ رؤوسَ الــوَرَى, وزهــورَ الأمـلْ
ورويَّــت بــالدمِ قلــبَ الــترابِ وأشْــربتَه الــدمعَ, حــتى ثمِــلْ
ســيجرفُكَ الســيلُ, سـيلُ الدمـاءِ ويـــأكلُك العـــاصفُ المشــتعِلْ
ويقول في الطبيعية:
أقبل الصبح يغني للحياة الناعسة
والربى تحلم في ظل الغصون المائسة
والصّبا ترقص اوراق الزهوراليابسة
وتهادى النور في تلك الفجاج الدامسة
***
أقبل الصبح جميلا يملأ الأفق بهاه
فتمطى الزهر والطير, وامواج المياه
قد أفاق العالم الحي ، وغنى للحياه
فأفيقي ياخرافي ، وهلمي يا شياه
***
واتبعيني يا شياهي ,بين أسراب الطيور
املئي الوادي ثغاء ، ومراحا وحبور
واسمعي همس السواقي ، وانشقي عطر الزهور
وانظري الوادي ، يغشيه الضباب المستنير
***
واقطفي من كلإ الأرض ومرعاها الجديد
واسمعي شّبابتي تشدو ، بمعسول النشيد
نغم يصعد من قلبي ، كأنفاس الورود
ثم يسمو طائرا ، كالبلبل الشادي السعيد
***
وإذا جئنا إلى الغاب ، وغطانا الشجر
فاقطفي ما شئت من عشب، وزهر, وثمر
أرضعته الشمس بالضوء , وغذاه القمر
وارتوى من قطرات الطل، في وقت السحر
***
وامرحي ما شئت في الوديان، أو فوق التلال
واربضي في ظلها الوارف, إن خفت الكلال
وامضغي الاعشاب ، والأفكار في صمت الظلال
واسمعي الريح تغني ، في شماريخ الجبال
***
إن في الغاب أزاهيرا ، وأعشابا عذاب
ينشد النحل حواليها ، أهازيجا طراب
لم تدنس عطرها الطاهر أنفاس الذئاب
لا, ولاطاف بها الثعلبُ في بعض الصحاب
***
وشذاً حلوا , وسحرا وسلاما ، وظلال
ونسيما ساحرالخطوة ، موفور الدلال
وغصونا يرقص النور عليها ، والجمال
واخضرارا ابديا ،ليس تمحوه الليال
***
لن تملي ياخرافي ، في حمى الغاب الظليل
فزمان الغاب طفلٌ لاعب عذب جميل
وزمان الناس شيخ عابسُ الوجه ثقيل
يتمشى في ملال فوق هاتيك السهول
***
لك في الغابات مرعاك ومسعاك الجميل
ولي الانشاد والعزف إلى وقت الاصيل
فإذا طالت ظلا الكلإ الغض الضئيل
فهلمي نرجع المسعى إلى الحي النبيل ...
إن الأمر لم يقتصر على تضمين ذلك في قصائده وأشعاره وخاصة أغاني الحياة بل في مؤلفه البديع :"الخيال الشعري عند العرب" الذي ألقي في شكل محاضرة بقاعة الخلدونية عام 1929 والذي مازال في حاجة أكيدة إلى المزيد من التمحيص والتنقيب والبحث قصد استخراج درره اللماعة وكنوزه المخفية.
إن رهان الشابي الأول في هذا النص ليس مجرد الجمع بين الانتماء للوطن والدفاع عن الأمة وذلك بضبط العلاقة بين الشعر والسياسة ولا التنظير لفلسفة الثعبان المقدس بل الوصول بالشعرية إلى أعلى درجات التنظير بالشرح والبيان والتعليل حتى تترسخ القيم البطولية في النفوس وتدخل إلى قلوب الشباب الناهضة وتحقق الاستنارة في العقول وتخاطب فيهم روح الفتوة والحماسة ويسلك بهم سبيل إرادة الحياة.
لقد عبر الشابي عن هذا الإصرار على النهوض في نشيد الجبار أو هكذا غنى بروميثيوس بقوله:
سأعيش رغم الداء والأعداء
كالنسر فوق القمة الشماء
أرنو إلى الشمس المضيئة…،
هازئا بالسحب والأمصار والأنواء…
وأقول للجمع الذين تجشموا
هدمي وودوا لو يخر بنائي…
إن المعاول لا تهد مناكبي
والنار لا تأتي على أعضائي
فتعلق الشابي بالمرأة ليس قائما على المحاسن الجسدية، بل كان منصرفا الى مافي جوانحها من معاني العطف والمحبة، وهذه الحقيقة نجدها في رائعته في هيكل الحب:
أراك فتحلو لديَّ الحياة
ويملأ نفسي صباحُ الأملْ
وتنمو بصدري ورودٌ عِذابُ
وتحنو على قلبي المشتعلْ
وفي وصف بلده قال:
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر
ومن لم يعانقه شوق الحياة تبخر في جوها واندثر
كذلك قالت لي الكائنات وحدثني روحها المستتر
ودمدمت الريح بين الفجاج وفوق الجبال وتحت الشجر:
إذا ما طمحت إلى غاية ركبت المنى ونسيت الحذر
ومن لا يحب صعود الجبال يعش ابد الدهر بين الحفر
فعجت بقلبي دماء الشباب وضجت بصدري رياح أخر
وأطرقت أصغى لقصف الرعود وعزف الرياح ووقع المطر
وقالت لي الأرض لما سالت: يا أم هل تكرهين البشر ؟:
أبارك في الناس أهل الطموح ومن يستلذ ركوب الخطر
وألعن من لا يماشي الزمان ويقنع بالعيش ، عيش الحجر
هو الكون حي يحب الحياة ويحتقر الميت مهما كبر
وقال لي الغاب في رقة محببة مثل خفق الوتر
يجيء الشتاء شتاء الضباب شتاء الثلوج شتاء المطر
فينطفئ السحر سحر الغصون وسحر الزهور وسحر الثمر
وسحر السماء الشجي الوديع وسحر المروج الشهي العطر
وتهوي الغصون وأوراقها وأزهار عهد حبيب نضر
ويفنى الجميع كحلم بديع تألق في مهجة واندثر
وتبقى الغصون التي حملت ذخيرة عمر جميل عبر
معانقة وهي تحت الضباب وتحت الثلوج وتحت المدر
لطيف الحياة الذي لا يمل وقلب الربيع الشذي النضر
وحالمة بأغاني الطيور وعطر الزهور وطعم المطر