بقلم/ أ. جمعة الفاخري
غنَّاوَةُ العلمِ بيتٌ شعريٌّ مكثَّفٌِ يختزلُ المرءُ فيهِ مُعْتملاتِ أعمَاقِهِ ، وعصارةَ قلبِهِ ، وما تهجسُ بِهِ نفسُهُ من مشاعِِرَ وأحاسيسَ ، فهو كبسولَةٌ شعريَّةٌ وجدانيَّةٌ ، سريعةٌ ومؤثِّرَةٌ مثلَ طلقَةٍ ، سَهْلَةُ الحفظِ كَاسْمِ المرْءِ نفسِهِ ، وهي ـ أحيانًا ـ مُفْرِحَةٌ كَبُشْرَى النَّجاحِ ، وَأحيانًا مُحْزِنَةٌ كَكِلْمَةِ سُوْءٍ كَاذِبَةٍ ، كخبرٍ سيِّئٍ .. وهي تارةً لذيذةٌ سَائِغَةٌ كَقِطْعَةِ حَلْوَى ، وتارةً مرَّةً كطعمِ العلقمِ ، كمذاقِ الهزيمَةِ والفشلِ والسُّقوطِ ..!
وغنَّاوة العلمِ تصريحٌ صادرٌ عن صاحبِهَا بما في أعمَاقِهِ المستفزَّةِ بفعلِ الحزنِ أو الفرحِ .. هيَ تقريرٌ مُسْتَوْفىً عن أعمَاقِهِ ، مُوْجَزٌ نفسيٌّ قصيرٌ شَامِلٌ عن دواخلِهِ ، تبريرٌ لحزنِهِ أو فرحِهِ ، لذلكَ كانَ لغنَّاوَةِ العلمِ حضورُهَا الآنيُّ الدَّائِمُ واليومِيُّ في وجدانِ
الإنسانِ اللِّيبيِّ ، بل والفاعلُ ، شأنها شأنَ الرُّبَاعِيَّات ِ، وإن كانت
ـ هذهِ الأخيرةُ في أغلبِهَا مُنْتَجًا نِسَائيًّا ـ كما أسلَفْنَا ـ تُوْلَدُ مَصْحُوْبَةً باصطخابِ دفتي الرَّحَى وهي تدورُ مُهَشِّمَةً حُبَّاتِ الشَّعِيْرِ أو القمحِ ، وبعضُهَا كانَ رِجَاليًّا بقدرٍ ، كَتِلْكَ التي نتجَتْ عن أصحَابِ الحرفِ ـ بِخَاصَّةٍ ـ حينَ كانوا يتغنُّوْنَ تَسَلِّيًا أو تخفيفًا لآلامِ الْكَدْحِ ، ومُكَابَدَاتِ الْعَمَلِ ، كَأَغَاني الْجَبَادَةِ وغيرِهَا.
وقد كانت غنَّاوَةُ العلمِ ولا زالَتْ مُتَنَفَّسًا مُفَضَّلاً للإنسَانِ الليبيِّ في كلِّ الإزمنَةِ ، وما يهمُّنَا ـ هُنَا ـ هُوَ شَرْحُ بعضِ غناوي العلمِ التي تَنَاوَلَتِ الأَجْوَادَ فَأَطْرَأَتْ مَنَاقِبَهَمْ ، وَأَبْرَزَتْ صِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالَهَم.
وممَّا ذُكِرَ إِبَّانَ حُقْبَةِ الْجِهَادِ ضِدَّ الْمُسْتَعْمِرِ الإِيْطَالِيِّ الْبَغِيْضِ أَنَّ شِيْخَ الشُّهَداَءِ عُمَرُ الْمُخْتَارِ كَانَ يُرَدِّدُ هَذِهِ الغنَّاوةَ معتزًّا بجهادِهِ وجِلادِ ورِفَاقِهِ الصَّادقينَ الْبُسَلِ:
أجواد راكبين الخيـــــل
عــــلي وطنَّا ما نماينوا.
ومعنى الغنَّاوة أنهم أجوادٌ يمتطونَ صَهَوَاتِ جيادِهِمْ لا يمكنُ لهم أنْ يتخلُّوا عن وطنِهم أويفرِّطوا في الدِّفَاعِ عنهم.
ونلاحظُ أنَّ الشيخَ الشَّهِيْدَ كانَ يفخرُ ـ ضمنيًّا ـ بثلاثةِ أشياءَ :
بأنهم أجوادٌ ، أي أهلٌ كرمٍ وجودٍ وشجاعةٍ ، وبِرُكوبِهِمُ الخيلَ ، ومحافظتِهِم على وطنِهِم ، وعدمِ التَّفريطِ في شبرٍ منه.
أمَّا هذهِ الغنَّاوةُ فيفتخرُ قائلُهَا بِأَنَّهُم كِرَامٌ يَعْرِفُوْنَ أَهَمِيَّةَ إِكْرَامِ الضِّيْفِ ، مُشْهِدًا الزَّمَانَ على صِدْقِ دَعْوَاهُ :
يشهد زمانَّا جاويــــــــد نحنا نعرفوا قاب ضيفنا.
أمَّا هذا فيخبرُ أنَّ جولتَهُ على أهل الجودِ والكرم زادته طربًا وفرحًا وسعادةً :
الجولة علي لجــــــــــــــواد
عـــلى اطربي زادتني طرب.
بينما يفتقدُ صاحبُ الغنَّاوةِ التَّاليَةِ رفقةَ الأجوادِ ، مُرْجِعًا حالاتِ الأسى التي يمرُ بها في بعضِ الأحيانِ ، وَنَوْبَاتِ الْقَلَقِ النَّفْسِيِّ التي تنتابُهُ إلى افتقادِهِ لصحبتِهمِ وافتقارِهِ لهم :
العقل مو رفيق أجــــــواد
يــــزهى نصيب ويدورد علي.
وَصَاحِبُ هَذِهِ الغنَّاوةِ يوضِّحُ أَنَّ الجودَ هَدِيٌ إلهيٌّ منَ الجوَّادِ ، سبحانَهُ وتعالى ، وبلا هذا الهدي لا يمكنُ لأحدٍ منَ الأجوَادِ أن ينفعَكَ بشيءٍ ، والغنَّاوَةُ سهلَةٌ بسيطةُ المعاني ، وَاضِحَةٌ في ذاتِهَا ، غيرُ محتاجَةٍ لتفسيرٍ وإيضاحٍ :
الجود هَدِي مِ الجــــــوَّاد
بـــــــلاه ما أجوداي ينفعك.
وفي غنَّاوة ( صابية) يقولُ الغنَّاي سعد خليفة البرعصي:
أجوادي وْجَوْكْ أجــــوادْ
ادْنــــــــى وْدِير لقدار يا علم .
الغنَّاي كانَ يُخَاطِبُ ( الحجَّالةَ ) واصفًا إيُّهَا بَأَنَّهَا منَ الأجوادِ ( أجوادي ) وأنَّ الذينَ جَاؤُوْهَا هم أجوادٌ أيضًا ، ويحثُّهَا على أن تدنوَ منهم دونْ حرجٍ أو ارتيَابٍ ، وَأَنْ تصنعَ معهم ( الأقدار ) أي الأعمالُ الحسَنَةُ المقدَّرَةُ ، فهي تعرفُ ـ جيِّدًا ـ هذهِ القيمَ ، وتدرِكُ هَذِِِهِ الشَّمَائِلَ.
و( الأجوادي ) لا ينسى أخلاقَهُ أبدًا ؛ فها هو يُلْقِي السَّلامَ الواجِبَ اللائِقَ على أَحِبَّتِهِ الْمُسْتَعْصِي عليهِ الوصولُ إليهِم ، واستحالةُ الظفرُ بِهِم ، وهو ما عبَّر عنه بعبارةِ ( ملطوطه أقسامكم) يقولُ الغنَّاي:
عليكم سلام أجــــــــــــــوادْ
حتى وهي ملطوطه أقسامكم.
أمَّا هذا فيوضِّحُ أنَّهُ ضيفٌ نَازِلٌ في ضِيَافَةِ الأجوادِ ، مما يلزمُ أن ينالَ من فضلِهمِ ، ومن معاملتِهِمُ الحسَنَةِ الكثيرَ من المعروف والإكبار والتبجيل ، فَإِنْ قلَّ قدرُهُ عندَهُم فسيرحلُ عنهم ، فهو عفيفُ النَّفْسِ عزيزُهَا منَ الأجوادِ أيضًا:
الخاطر نزيل أجــــــــوادْ
إن غــــــــابن أقداره يرتَحِلْ.
وهذا الغنَّاي يُقِرُّ بِأَنَّ خُلُوَّ الدَّارِ من أهلِِهَا يحدثُ دائمًا ، لكنَّ ما يوجِعُ النَّفْسَ هُوَ فِرَاقُ الأجوادِ الكرامِ :
خلا الدَّار ديما يْسيـــــــرْ
مـــــــْغير فَقِدْ لجواد يوجعَكْ.
وتقولُ غنَّاوة العلمِ موضحةً أنَّ الأجوادَ يَجُوْدُوَنَ على الأجوادِ ، وهذ العطاءُ الدائرُ بينهم هو كالدِّينِ
( سلف ) متعارفٍ عليهِ بينَ النَّاسِ ( العرب ):
أجواد عَ الأجوادْ تْجــــودْ
سَلَـــفْ أَجْوَادْ ما بين العربْ
وهذا يُعْلِنُ فَرحَتَهُ العارِمَةَ بِأَنْ وَجَدَ الأَجْوَادَ بعدَ طَوْلِ اشتياقٍ للقائِهِم، وطويلِ بحثٍ عنْهُم :
مْرايف علي لجــــــــــــواد
العـــــــقل قال ياني لْقيتهم .
الإنْسَانُ الخيِّرُ لا ينقصُ قدرُهُ عندَ الناسِ ، ولا يهتزُّ مركزُهُ عندَهم ، فقدرُه ومكانتُه دائمً محفوظانِ:
ما يْطيحْ من عْيون النَّـــاسْ
الــــــزَّين راه ديما بْقرعته.
فِيْمَا يَحْتَفِي صَاحِبُ هَذِهِ الْغنَّاوَةِ بِوُجُوْدِ الأَجْوَادِ ، مُقِرٌّ بِوُجُوْدِهِمْ ، فهم باقوْنَ إلى اليومِ ، مُغْرِيًا بِحَلاوَةِ الْقُدُوْمِ عَلِيْهِم في بِيُوِتِهِم وَمَحَالِّ سُكْنَاهُم:
- ما زالوا هْناكْ أجـــــوادْ
مْحَلََـــــى وَيْن تَلْفَى مْحلَّهم.
فِي الْغِنَّاوةِ التاليَةِ مَعْنًى جَمِيْلٌ ؛ فَقَائِلُهَا أَرَادَ أَنْ يَقُوْلَ أَنَّ الأَجْوَادَ الَّذِيْنَ كَانُوْا يَفْعَلُوْنَ الْمُكْرَمَاتِ قَدْ غَيَّبَهُمُ الْمَوْتُ ( تَوَارُوْا ) بِأَجْسَادِهِمْ ، لَكِنَّهُمْ لا يَزَالُوْنَ أَحْيَاءً بِبَقَاءِ صِيْتِهِمُ الطَّيِّبِ ، وَذِكْرِهِمُ الْعَطِرِ ، وَأَفْعَالُهُمُ الَّتِي تَدَلُّ عَلِيْهِمْ:
ـ تَوُارُوْا وَهُمْ حَيِّيْـــــنْ
عَــــرَبْ أَجْوَادْ كَانُوْا يَفْعَلُوْا.
وَهَذَا الغنَّاي يُحَمِّلُ الأَجْوَادَ مَسْؤُوْلِيَّةَ تَحَمُّلِ الإِسَاءَةَ مِنَ الْغَيْرِ ، حَتَّى وَإِنْ كَانُوْا مَظْلُوْمِيْنَ :
ـ الْوَاجِبْ عَلِي لجْوَادْ
حَتَّى وَهُمْ مَظَالِيْمْ يَحْمَلُوْا.
نَعَمْ ؛ فَعَلَى الْكِبَارِ أَنْ يَحْتَمِلُوْا مَا لا يَحْتَمِلُوْهُ الْعَادِيُّوْنَ ، لَقَدْ أَدْرَكَ ذَلِكَ ـ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيْدٍ ـ شَاعِرُ الْعَرَبِ الأَكْبَرِ أَبُوْ الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي حِيْنَ قَالَ:
وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوْسُ كِبَـــــارًا
تَعِبَـــــتْ فِيْ مُرَادِهَا الأَجْسَامُ
فَالأَجْوَادُ لَهُمْ قُدْرَةٌ فَائِقَةٌ على تحمُّلِ مَا لا يَحْتَمِلُهُ غَيْرُهُم ، وَبِهَذَا سَادُوْا ، وَصَارُوَا قُدْوَةً حَسَنَةً ، وأُسْوَةً مُثْلَى ، وَمَضْرِبًا لِلأَمْثَالِ في كُلِّ أَفْعَالِ الْمُرُوْءَةِ وَالشَّهَامَةِ ، فَشِدَّةُ الْعَزْمِ وَالصَّبْرِ وَالْعَطْفِ وَالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ خَلَقَتْ مِنْهُم بَشَرًا مُخْتَلِفِيْنَ ، وَجَعَلَتْهُم كَائِنًا اسْتِثْنَائِيًّا لا يُجَارَى فِيْ أَخْلاقِهِ وَأَفْعَالِهِ ، أَلَمْ يَقُلْ أَبُوْ الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي يَوْمًا:
لَوْلا الْمَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ
الْجُــــــوْدُ يُفْقِرُ وَالإِقْدَامُ قَتَّالُ